صفحات النّهار - الصفحة الثامنة
يبدو أنني وعدتكم بصفحة في أول يناير، أليس كذلك؟ انسوا الموضوع، يناير بدأ حامي. أخبرت صديقة جديدة من لبنان أننا نقول كلمة "حميّة" بمعنى سرعة الانفعال، أذكر صديقًا آخر يكرّر جملة "حار أنا!" طريفة إن سمعتها بلهجته الحجازيّة المدينيّة. المهم، يناير..
ما أخذت نفس، لكنني لست مضطربة، يناير يبدو لطيفًا حتى الآن، صديقة لي أيضًا أخبرتني أنها لا تحكم على عامها الجديد قبل السابع من يناير، لأنه قد "لسعها" من قبل، لذلك تنتظر للثامن من يناير حتى تحدّد مشاعرها تجاه العام. أكتب لكم هذه التدوينة وأنا أنتظر معالجتي النفسية أن تنضمّ للجلسة، بعدما سحبت عليها الأسبوع ماضي، وسحبت هي أيضًا الأسبوع الذي قبله. ماذا يحصل لنا يا آنيتّ؟ هل ستتركيني في السنة الجديدة؟ أمزح.. كلنا مشغولون. آنيتّ امرأة ملهمة صراحة، أتمنى أن تكون بخير.
لا أعلم ماذا أقول في هذه الصفحة، قرأت منشورًا على انستقرام قبل يومين، يتحدث عن القرن الـ"Anit-social"، كيف نعرّبها يا متعلمين يابتوع المدارس؟ غير اجتماعي؟ معادي للاجتماع؟ لا-اجتماعي؟ أترك لكم هذا القرار الصعب. المهم، يخصّ المنشور المجتمع الأمريكي، لكننا كشعب تعرّض للثقافة الأمريكيّة بكثافة منذ الصغر، جيلي ربما، حيث لعبت في تشكي تشيز وأنا صغيرة، وأدركت للمرة الأولى قريبًا بعد حديث مع صديقة أنه قريب للقمار هههه، كنا نأكل في مكدونالدز وبيتزا هت وبابا جونز وتشيليز وفرايدايز وغيرها من الطعام الخالي من النكهات.. نشاهد مسلسلاتهم وأفلامهم في إم بي سي، نشتري منتجاتهم.. ما سرّ هذا الهوس؟ صراحة سر هذا الهوس معلوم، دعنا لا نخوض فيه. لنعد إلى منشور انستقرام والعصر اللاجتماعي أو whatever..
يقول الكاتب الأمريكي ديريك طومسون في هذا المنشور-الذي أعتقد انه مختصر لمقالته على صحيفة الأطلسي الأمريكية-: أن الأمريكيين يقضون الآن وقتًا أكبر في العزلة، وذكر مؤخرًا في حسابه على تويتر بعض الإحصائيات في تغريدة، أود أن أشارككم بعضًا من أفكاري تجاهها:
" يقضي الرجال الذين يشاهدون التلفزيون الآن 7 ساعات أمام التلفزيون مقابل كل ساعة يقضونها مع شخص ما خارج منزلهم."
ثقافة الجلوس أمام التلفاز، أمر حصل لي منذ الصغر، ولا زال، لكن بعكس الهاتف المحمول، لطالما كان الجلوس أمام التلفاز أمرًا ليس له علاقة بالعزلة بالضرورة، لأنني البكر، قضيت وقتًا كبيرًا بمفردي أمام التلفاز بالطبع، لكنني أيضًا قضيت الكثير من الوقت أشاهد المسلسلات والمسرحيات مع والدتي، كان ما يعرض على التلفاز حدثًا نخطط له ونتناقش فيه، وندعو أفرادًا من العائلة أو الأصدقاء أو الجيران للانضمام إلينا أحيانًا لمشاهدة "الحلقة الأخيرة" من مسلسلٍ ما. عدت إلى جدة مؤخرًا لأجل مشروع، قضيت جمعتين أو خميسين الآن في منزل خالتي، لا زالت أمي وخالتي يشاهدن التلفاز معًا. لاحظت.. أن التلفاز لم يكن أبدًا محور الجلسة، بل لدينا موضوعات أخرى لدينا الكثير من المشاعر والأفكار حولها، كان للتلفاز دورٌ بسيط جدًا، ولطيف وشاعريّ في رأيي.. أن يعرض لنا بعضُا من القصص التي تلامس مشاعرنا، أو تطرح لنا فكرة جديدة، أو رؤية جديدة، لما نفكر به.
أليس مضحكًا؟ لطالما رأيت التلفاز شيئًا أمريكيًا.. صناعة أخرجت منتجًا وجد طريقه إلى كلّ بيت أمريكيّ، ثم إلى بيوتنا أيضًا.. ألم يكن سهلًا أن يلوم الجيل الذي قبلنا التلفاز على كل شيء؟ كما نلوم الهواتف الذكية الآن؟ لا أقصد أن ديريك ذكر التلفاز لأجل أن يلومه، حاشا! لكن إن قرأتم تغريدة ديريك ستجدون امورًا كثيرة ذكرها كعناصر مختلفة في الحياة يمكن أن تدعو للاجتماع والرفقة ويمكن استخدامها في العزلة أيضًا. أو أنها أمور قديمة أو مستحدثة، ليست كلها جديدة لتأخذ كل انتباهنا وتعزلنا عن الآخرين.. لكنها تفعل! لماذا؟
مثلًا، ذكر طومسون هذه الإحصائية:
"تقضي مالكة الحيوانات الأليفة النموذجية وقتًا أطول في التفاعل بنشاط مع حيوانها الأليف مما تقضيه في الاتصال وجهاً لوجه مع أصدقاء من نفس نوعها."
طبعًا لا أعلم لم خصّت الدراسة الإناث من ملّاك الحيوانات الأليفة، لا أرى أن ذلك يدل على شيء. لكن، موضوعنا.. الحيوانات، استأنس الإنسان الحيوانات منذ قرون، وربما قضى الكثير من الوقت مع الحيوانات أيضًا، ربما أكثر من البشر، لكن لم يدرس أحد وقتها عدد الساعات التي قضاها، وقارنها بما يقضيه مع البشر.. لكن لماذا أصبح هناك مقارنة الآن؟ بين العزلة، الحيوان، والإنسان؟ أنا أتأمّل فقط. لماذا أصبح كلّ شيء على كفة والإنسان في كفّة؟ فيه شيء غلط.. أيهرب الإنسان من الإنسان؟
" بين أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وأحدث البيانات، انخفض متوسط الوقت الذي يقضيه الأمريكيون في استضافة أو حضور المناسبات الاجتماعية بنسبة 32٪ أخرى."
في تدوينة أخرى لي، بعنوان "حلاوة اللقاء"، تحدثت عن هذا التغيير، عليّ أن أؤكّد الآن، هناك أسباب كثيرة لدينا في الجزيرة العربية تؤدي إلى تراجعنا عن استضافة "الجمعات" سوى الأجهزة والإنترنت، ألا وهي "قلة الحياء"، نعم أعزائي، المشكلة الكبرى التي أواجهها مع العادات والتقاليد الاجتماعية، هي غياب المعنى والقصد، غياب النية الطيبة، وقوة حضور الشكل، الهيئة، الروتين، الالتزام والمسؤولية، التفاخر، واللوم، والعار..الخ، بشكة مصايب، تأتيك مع كلّ جمعة، وعبء ثقيل على الضيف والمستضيف، فقلنا أخيرًا: "وعلى ايش؟ أقعد في البيت أحسن".
بدلًا من البحث عن طرق لتبسيط ما هو معقّد، لوضع الحدود واتخاذ موقفٍ ما أمام من تعدى عليها، أصبحت سياسة "البديل" والمقارنة هي الحل في اللاواعي.. أتذكرون البديل؟ في MBC3، مسلسل كرتوني عن شركة تعطيك بديل لأي شخص في حياتك لا يؤدي دوره بالشكل المطلوب، وغالبًا ما تنتهي الحلقة بتراجع البطل عن قرار التبديل وإعادته للشخص المستبدل. أحببت ذلك المسلسل في صغري.
"انخفضت حصة الأولاد والبنات الذين يقولون إنهم يلتقون بأصدقائهم يوميًا تقريبًا خارج ساعات الدراسة بنحو 50% منذ أوائل التسعينيات. حول الحياة المنزلية"
كان غريبًا بالنسبة لي، أن صديقاتي في الجامعة لم يكن لديهم اهتمام كبير بقضاء الوقت معًا، كنت أعيل ذلك إلى عدم قدرتهم على الخروج من المنزل، وهو أمر للأسف حتى وقتٍ قريب جدًا، وربما حتى الآن لبعض العائلات في المملكة، ليس متاحًا للنساء.. الخروج من المنزل كان أمرًا كبيرًا، أود أن أحيلكم إلى أحد أفلامي القصيرة المفضلة في فليم "ممكن أطلع" والذي ربما كان احتفاءً بقيادة المرأة قبل 7 سنوات، لكن حتى الآن، هناك تضييق كبير من بعض العائلات على خروج النساء من المنزل، وهو أمر ذكوريّ بحت، ولا زال موجودًا في ثقافتنا رغم كل شيء..
لكن ما كان مزعجًا بالنسبة لي، أن ليس هناك فتاة واحدة من زميلاتي تظن أنها "محبوسة"، هن يعتقدن أنهن يفضّلن البقاء في المنزل، وأجزم أن بعضهن يفضلن ذلك بالطبع، لكنني أجزم أيضًا أن البعض الآخر لا يعرف أصلًا ما هو شعور أن يكون لك الخيار المطلق والسريع في مقابلة صديقاتك في أي وقت تريدين. لكنه خليط بائس بين القمع، وبين توافر البدائل الرخيصة كالمراسلة.. عرفت أن هذه "الشلة" ما منها رجاء، عندما قمنا بمشاهدة فيلم عن بعد معًا على منصة ما توفّر ذلك الخيار، ولم يتحدث أحد لا قبل ولا بعد الفيلم. لماذا شاهدناه معًا؟ لا أعرف، كان الأمر محبطًا، أغلقوا الاتصال مباشرة بعد الفيلم وظلوا صامتين. بنت انتي وهي! ايش الجنان دا!؟ على فكرة، هذه "الشلة" ليست صغيرة، العدد كان كبيرًا.
"تفضيل الأفراد للعزلة، عندما يتزايد في المجتمع ويمارس بشكل متكرر على مر الزمن، يعيد تشكيل الهوية المدنية والنفسية لأمريكا. وعواقب ذلك بعيدة المدى—تؤثر على سعادتنا، ومجتمعاتنا، وسياساتنا، وحتى فهمنا للواقع." يقول طومسون.
من المضحك أيضًا أن العرب يرون أن الغرب وحدهم مسؤولون عن تفكّك مجتمعاتهم، بينما لعبنا نحن أنفسنًا دورًا كبيرًا في تفكيك مجتمعاتنا عبر ممارسة التضييق والضغط والسلطة في كل وسط اجتماعي، وزرع القلق في كل تفاصيل تفاعلاتنا مع الآخرين.
على فكرة، معالجتي ردّت، انقطعت عندهم الكهرباء.
تعليقات
إرسال تعليق