حلاوة اللقاء

 من فوائد العمل في مقاهي الأحياء الصغيرة، أطراف الأحاديث اللي أسمعها خلسة وأنا أعمل، ممتعة بعض الأحيان ومقيتة بعض الأحيان. أكتب هذه التدوينة وفي الخلفية تجلس صديقتان على الطاولة المجاورة لخوض حديث لم يتوقف منذ ثلاث ساعات، أنهيت فيها بعض المهام وقمت بمكالمة هاتفية طويلة، بينما يدور حديثهم عن العمل، التطوّر في توجهاتهم الدينية وتعرفهم على الثقافات الأخرى، علاقاتهم العاطفية وصداقاتهم المشربكة.. وبعض الأحاديث العشوائية التي لم تلتقطها أذني. 

في المقابل، في زاوية المقهى وكل مقهى ذهبت إليه في حياتي، يجلس صديقان أو ثلاثة للاستمتاع بتجاهل بعضهم وتصفح الجوال، أو مشاهدة الآخرين في المقهى والتحديق فيهم بغرابة، أو الحديث عنهم والضحك بصوت يعتقدون أنه منخفض. وهنا أتذكر الوقت الذي لم يكن فيه اللقاء في المقهى شيئًا معهودًا، في الغالب كنا ندعو الناس إلى منازلنا، ونقوم بتنظيف المنزل، تحضير وجبةٍ ما، وأنواع أخرى من الضيافة، ونجلس لتبادل الحديث حتى يحين موعد النوم الذي قد يتأجل إن "زانت الجلسة" وغالبًا ما تزين لأن هذا أمر لا يحصل بشكل يومي كما قد نلتقي في المقهى يوميًا، لن نمل من بعضنا ونبحث عن أمر آخر لنفعله، لن ننصرف حين يطفئ المقهى الأنوار معلنًا انتهاء ساعات العمل. 

لا تعتقد يا صديقي أنني أمدح زمنًا قديمًا، أنا لست جدتك، ولا أشعر بالحنين تجاه أي شيء، أنا فقط ببساطة: أتذكر. لن أشتاق للمجهود الذي كنت أقوم به لاستقبال ضيوف غير مرغوبين، أو زيارة مضيف سيّء. أنا فقط أتأمّل المقهى، الذي وجد كمفهوم لمكان يبيع القهوة، ويسمح لك بالجلوس قليلًا على طاولة لشربها، وأنا أستخدم هذه الطاولة كمكتبي الخاص أقوم فيه بحضور اجتماعاتي، وأجلس ما يزيد عن 8 ساعات يتخللها استراحات قصيرة أخرج فيها من المقهى لتدخين سجارة حتى لا أصبح عسكريمة. 

لا نتذوق حلاوة اللقاء كثيرًا، المكان "يحكم"، لكن لا ينبغي أن يحكم. ما يحكم هو مدى اهتمامنا بأن نكون حاضرين مع من نحب في هذا الوقت، واجتهادنا بأن يكون لهذا الوقت قيمة معنوية أو عاطفية أو عملية أو على الأقل ممتعة. أحسد من يذهب إلى مقهى بغرض "تضييع وقت"، أتمنى أن أمتلك هذه الرفاهية.

كان لدي صديق، يهتم كثيرًا بالمقهى، بالنسبة له المكان "يحكم" فعلًا! حتى أنه قد يمتنع عن اللقاء بأصدقائه إن لم يكن المكان على مزاجه، وأنا أتفهّم، لكني لا أقبل هذا السلوك. حتى إن دعوت هذا الصديق إلى المنزل، فهو ينتظر قيمةً ما يخرج بها من هذا اللقاء، ويتوقّع منك الكثير من الجهد للعمل على تحسين تجربته في زيارة منزلك، وأنا أتفهّم ما يقصده، وأحترم اهتمامه بهذه القيمة، وتقديره الشديد لقيمة وقته وقيامه بالخروج من منزله وزيارة صديق ما، لكنني أختلف معه في أن القيمة الحقيقية هي في "المعيّة"، هل هذا الشخص معك فعلًا؟ 

في وقت لا اشعر فيه بالرغبة في مقابلة الناس، أميل هذه الفترة إلى قضاء يومي وحدي، وأستمتع بذلك كثيرًا، لا أمانع الرفقة، لكنني لا أريد من أي شخص أي أن يتوقّع مني أي شيء، ولن أفعل ذلك في المقابل. قد أكون مرهقةً جدًا، لكنني أقدّر حلاوة اللقاء عندما أشعر بها، وكنت محظوظة بأني شعرت بها قريبًا رغم كل شيء، لم اعلم أنني افتقدتها كثيرًا. 


__________________________

خيريّة، تتصنّت على الناس في المقهى لأن سماعتها خربانة.
الثلاثاء 15 أغسطس 2023 
9:20 ليلًا

تعليقات

مقالات فنية

من هو القيم الفني؟

ماذا ينبغي أن يقول الفن؟

لا بأس، ستأتي فرصة أخرى