المرأة الخامسة
كيف نتحدّث عن جدّاتنا؟ هناك هوس في الوسط في الثقافي حول الجدة، يدور غالبًا حول الحنين والذكريات والدفء، يدور غالبًا حول ما تعطيه لنا الجدة، تمامًا مثل حديثنا عن الأم.. فقط عندما نتوقّف عن النظر إلى علاقاتنا مع آبائنا وأجدادنا كعلاقات نفعية، وننظر إليهم بشكل مجرّد من هذه العلاقات، ننظر إليهم كبشر، مثلنا تمامًا.. حينها فقط، سنرى كم نضجنا.
أكتب الآن وصوت مكيّف صالتي ومروحتها القديمة يعزفان سيمفونية الليل المعتادة، تجلس صديقة على السجادة والباب مفتوح، يدٌ تحمل هاتفها الموصل بالكهرباء، ويد أخرى تلعب بظفيرة شعرها. نينا سيمون تغني في الخلفية. غرفة مضاءة، وإضاءة صالتي خافتة. نحتسي كلّنا البابونج. لا أستطيع ألا أفكر بليالي المذاكرة في الطفولة، ضوء خافت، شاي حليب، تلفاز مضاء بلا صوت، ربما راديو؟ سِيدي كان يحُبّ الراديو. أنا ممدّدة على الأرض بقميص النوم، بطني على الأرض، أكتب الواجب.
لا علاقة بما كتبته بالسبب الذي بدأت فيه هذه التدوينة، في الحقيقة.. بدأتها من الجدة.
كفتاة نشأت في بيئة غير طبيعية، أيًا كان معنى ذلك لديك أيها القارئ، كان "الرجل الأوّل في حياتي" غير موثوق به، ولا الثاني، ولا الثالث، ولا الرابع، ولا الخامس..الخ، كل رجال العائلة، لا أثق بهم. هذا أمر حاولت إصلاحه منذ الصغر، حاولت إصلاح صورة الرجل في ذهني قدر المستطاع، لا لأكون عادلة تجاهه بصراحة، لم أملك ما يثير هذا الدافع حينها، إنما لأكون عادلة تجاه ذاتي، وكان هذا أمر تبنّيته في أمور أخرى كثيرة امتلكت حولها مفاهيم مشوهة بسبب البيئة التي نشأت فيها.. لذلك، لم أكره مدينتي، لم أكره حارتي، لم أكره جسدي، لم أكره إيماني، لم أكره مجتمعي، بل حاولت إيجاد ما يشبهني، بينما قدّرت ما هو جميل في كلّ شيء لا يشبهني. ببساطة، عهدت دائمًا على نفسي، ألا أسمح لمحيطي المحدود وتجاربي السيئة، أن تحرمني من تجارب أخرى في هذا العالم قد تكون خيرًا لي.
الرجل الأول ومن يأت بعده من الأولين، قد يشكّلون جزءًا كبيرًا من تصوّرنا عن "كيف يكون الرجل"، لا كيف ينبغي غالبًا، لكن ببساطة كيف يكون، كيف يفكّر، كيف يحب، وكيف يتعامل مع صعوبات الحياة. كذلك أيضًا المرأة الأولى. هذا ما لم أفكر فيه بوعي كافٍ، أو ربما فعلت، لكن.. أزعم أنني أكتشف الآن أبعادًا أخرى لهذه المسألة.
مفهوم المرأة الأولى غالبًا ما يكون الأم، لكن سنعود إليها بعد قليل، أريد أن أتحدث عن المرأة الأولى للمرأة الأولى، سِتّي، لا أعرف عنها الكثير، رأيت لها صورة واحدة، بدت.. مسكينة، لا أحب ذلك. ليس في عينيها شيء، أو ربما لم أقرأ شيئًا. توفيت بعد ولادتي بقليل. كل ما أعرفه، أن سِتّي كانت مريضة نفسيًا كما وصفتها والدتي، لم تخبرني والدتي ما كان بها، ربما لم تكن تعرف، فالطب النفسي حينها لدينا كان معطوب، وربما لا زال.. هذا الأمر، جعل ستيتة (خالتي الكبرى)، تهتم بالصحة النفسية، كانت تمتلك أكبر مكتبة رأيتها في صغري، وكانت تأخذ أولادها إلى الأطباء النفسيين، لأسباب أخرى بالطبع، تعرفها عائلتي، ليس فقط بسبب تجربة والدتها. لكن هذا الأمر الذي أدركته قبل سنة وأكثر، حينما بدأت أتحدث إلى معالجة نفسية بنفسي.. هل هناك شيء خطب جينيّ في هذه العائلة؟ هل نجوت؟ أفكار غير مريحة، ربما توصلت إليها لأنني في صغري، كان بقية أفراد العائلة يتحدثون عن لجوء أبناء وبنات ستيتة إلى الطب النفسي بسخرية، لم يعجبني ذلك.
عندما أشعر بالوحدة، أتذكّر أمي كثيرًا، أتذكّر أوقاتًا كثيرة في طفولتي رأيتها تقضيها وحيدة، كنت حينها أعتب عليها، لماذا تجلسين وحدك؟ ظننت أنه أمر خاطئ، قالت لي حينها أنا أستحق أن أجلس وحدي، أحتاج إلى ذلك أحيانًا، فهمت ذلك بعدها. لا زلت أشعر أن أمي وحدها، وأرى الكثير من النساء في عائلتنا وحدهنّ، بعضهن متزوجات وأخريات.. فلنقل ليس بعد الآن. لنتحدث الآن عن المرأة الرابعة، كانت تحب عزلتها كثيرًا، ولا زالت، تختار بعناية من تقضي وقتها معه، ولم تتزوّج بعد زوجها الأول. العائلة لم تتقبّل ذلك، قوبلت الرابعة بالكثير من العتب والصراخ وطرق الباب والرسائل الطويلة الغاضبة. لم يعتقد أيّ منا أنها تهتم.
كيف نعرف؟ إن كانت أي من تلك النسوة يحببن عزلتهن؟ كيف يتعاملن مع الوحدة؟ كيف تواجه المرأة الأولى، أو الثانية أو الثالثة..الخ الصعوبات في حياتها وحدها؟ لم أعرف قط. لم أفهم قط. لم أرَ. لم يقلن لي.
وغير الوحدة! الكثير من الأمور، التي لا تحكي عنها النساء لبعضهن، كلّ شيء في حياة المرأة حولي يرتبط بالعار، أو بالرجل. هذا ما سمعته، لا ما أعتقده. لا أودّ أن أبحر في الوحدة كثيرًا، لكنها أمر سمعته هذا الأسبوع من إحدى النساء الأوّلات. لكن هذا ما أودّ أن أتأمّله لوهلة، كيف شكّلت هؤلاء النسوة وغيرهن رؤيتي لنفسي، وتعاملي مع ذاتي، وتعاملي مع الحياة.. وأين هي الجوانب التي لا يساهم فيها أثرهنّ؟ ماذا أعرف عن هذه المرأة؟ وكيف أراها؟ كيف هي في الحقيقة؟ عندما لا أراها..
___
الصورة في المقدمة من هنا.
تعليقات
إرسال تعليق