صفحات النّهار - الصفحة الثالثة
أنا لست بخير، إن كنتم تتساؤلون عما افعله في ديسمبر -أعلم أن لا أحد يتساءل لكن مشّوها- فما أقوم به هو التعامل مع عواقب أخطائي، كل سنة أقوم بأخطاء كثيرة، لا أقول أني أشعر بالندم، أنا فقط أشعر بما ينبغي علي الشعور به عند مواجهة العواقب، ما هو هذا الشعور؟ هي الكثير من المشاعر.. أكبرها العتب، حين أعتب على نفسي أولًا، أعتب على الناس، اليوم كنت أفكّر، في مقابلة أجريتها مع الفنانة زهرة الغامدي، في مقالة "زهرة الغامدي، تنصت لصوت الأرض"، عندما أرسلت المقالة أردتها أن تكون بعنوان "زهرة، تنصت لصوت الأرض" كانت أجمل وقعًا على أذني، لكن رئيسة التحرير أضافت "الغامدي" وخربتها. كانت جميلة، أرى أن زهرة لها من اسمها نصيب، من سينصت لصوت الأرض غير من يشعر أنه ينتمي إليها؟ "زهرة، تنصت لصوت الأرض"، ليس غريبًا، يبدو طبيعيًا، منطقيًا، حقيقيًا.
د. زهرة كانت تحكي لي أنها تسمع في صوت الارض الكثير من العتب، في رأيي، لا تستطيع زهرة فعلًا سماع صوت الأرض، بل أرى أن زهرة نفسها تملك الكثير من العتب، حين سألت زهرة كيف عرفت أنها تشعر بالعتب؟ قالت بأن الأرض تلفظ ما يسقط فيها من أذى، قد يكون الأذى في شكل حفرة عميقة بمعدات ثقيلة، أو قطع بلاستيكية كثيرة تلقى في قلبها، أو حملٍ ثقيل مكوّن من مبانٍ شاهقة، ببساطة ما فعلها الإنسان بها. ترى زهرة أن عتب الأرض يخرج في شكل أشواك، أشواك النباتات، الورود، المختلطة بالبلاستيك والعظام والبقايا، كأن الأرض تقول: "أنظروا، هذه أنا الآن بعدما فعلتم بي". أرى أن الأرض تشتكي أيضًا في شكل زلزال، بركان، فيضان، أتّفق مع زهرة في أن الأرض غاضبة، وعاتبة، وأننا من الأرض، لذلك، نغضب ونعتب مثلها. اخترت مصطلح العتب، لأنني لا أمتلك درجات الغضب التي كنت أمتلكها من قبل. إن كنتم تريدون الحقيقة -أيضًا أعلم أنكم لا تريدونها لا نكذب على بعض-، أشعر بالملل. مللت من خيبات الأمل، لم يعد هناك أمل، بل ملل. مللت من النسخ الكثيرة من الناس، مللت من الكلام المكرّر، وممن يكرّر الكلام، مللت من الشخص المليون، الذي يفعل ما فعله المليون من قبله، لنفس العذر، ويقول أنه هو فقط من يمتلك هذا العذر فعلًا، وأنه صادق.. هو صادق، لكنّه مملّ.
"أليس منكم رجل رشيد"؟ حلوة هذه العبارة، قالها نبيًّ على لسان نبيٍّ سمعها من لسانِ ملاك، في قصة حقيقية تروى للمرة التي لا نعرف عددها، بأحداث مختلفة بالطبع. لكن، لا يتغيّر الإنسان، أليس كذلك؟ "أليس منكم رجل رشيد؟" من هو الرجل الرشيد، من يرى ما يحصل ويراجع عقله، ويقول "لا ما احس اللي قاعد يصير صح، شباب احنا ليش مجتمعين عند بيت هذا الرجال عشان نآذي ناس ما نعرفها؟" رشيد،
رَشِيد
1.
صائب، سليم، حَكيم.
"سِياسة رَشيدة"
2.
مُطابق للعَقْل، للحَقّ والصَّواب.
"قَرارٌ رَشيد"
هل أنا رجلٌ رشيد؟ لا أعتقد أنّ الرجل الرشيد ملول، لا أعتقد أن لوط صرخ بها في ملل، بل في هلع، في دعوة إلى الرشد، هل أمتلك هذه الصرخة بداخلي؟ أو الحكمة؟ هل أودّ دعوة أي شخص إلى أيّ شيء؟ هل أضفت ما أضفت من المعجم لأخدع نفسي لكتابة صفحة كاملة دون أن أكتبها فعلًا؟ أنا لست بخير، لكنني لا زلت أمتلك الكثير من الأسئلة، واضح! هل يمتلك شخصٌ ملول الكثير من الأسئلة؟ لا أعتقد.. ربما.. وربما ليس هناك علاقة بين الفضول والملل، فسبب الملل لدي ليس شبعي من الفضول، بل قلة الدهشة، قلة المفاجأة، قلة الامتنان، أحاول في هذه الفترة أن أكثر من الامتنان، وأن أقلّل من العتب، وأن أقلّل من العشم. يقول طلال مدّاح: "وكان العشم أكبر"، غلطان. أو مو غلطان؟ لا زلت أؤمن، أنني لست متطلّبة، أن العشم ليس خطأً، والتوقّع أيضًا، ليس خطأً أن نعتقد أن الصديق سيتصرّف كصديق، أو أنّ الحبيب لا يتصرّف كحبيب، ليس خطأً. هذه المبادئ الغبيّة "بلا توقّعات" أو "تخفيض التوقّعات" هي طرق ملتوية لتخفيف الألم عند مواجهة الواقع، وأنا آسفة، هي لا تنجح، طرق فاشلة. طرق تجعلنا أشخاصًا فاشلين في الحب والصداقة. الألم جزء من الحياة، عندما تجرح، ستتألّم، إن حاولت أن تخدع نفسك بأن تقول "ليس لديّ توقّعات" أو "ليس لديّ آمال"، أنت كاذب، أنت إنسان، لديك توقّعات وآمال ورغبات، ستتألّم إن لم تحصل عليها، ربما عليك فقط أن تجد طريقة للتعامل مع هذا الألم؟ بدلًا من المحاولة المليون للهروب منها؟ لديّ خبر سيء لك، الهروب مؤلم أيضًا، لن يفيدك في شيء.
""إن عُدتِ إلى القلق هائمةً في الأفُقِ ، سابحَة في الشفَقِ فهُيامك لن يُجدي" ليس لها علاقة بما أقول، لكن أحبها.
هل ترى إن امتلكت نهرًا أغتسل به كل يوم، سأتطهّر من عتبي، حقدي، ألمي، مرضي، السموم بداخلي؟ لا أتساءل لأني أشكّك في طهارة النهر، بل أتساءل لأني لا أثق في ثقل مابي من مرض، الأمراض تختلف، عندما يكون المرض زكامًا.. أراه سائلًا بشكلٍ ما، تشنّج؟ جلطة؟ حصوة؟ أشعر أنّ بعض الأمراض عبارة عن كتلة، كتلة من السموم المتراكمة، لذلك ربما اخترع القدماء الحجامة، لكنني لا أعتقد أن الحجامة تفعل شيئًا، ربما تؤجّل حل المشكلة فقط، لكنّها لا تحلّ المشكلة.. هل هذا ما يقوم به أي فعل بغرض التطهير؟ التخلص من أعراض وآثار المشكلة العالقة على السّطح، بدلًا من تغيير المصدر.
في ألبوم آرورا الأخير، "ماذا حصل للقلب؟" هذا كان عنوان الألبوم، ربما أودّ تحويله إلى "ماذا حصل أيّها القلب؟" إلى حوار.. أسماء الأغنيات كانت: "صدى ظلّي، أن أكون بخير، معضلة العقل، نوعٌ ما من الجلد، دمُك، الجوهر، بهجة الأرض، عندما ترتدي الظلمةٌ الخِفّة، روحٌ بلا ملك، أحلام، اسمي، هل تشعر؟، الجوع، الشفرة، جسدي ليس ملكي، جروحٌ خفيّة..." هذه بالطبع ترجمتي الركيكة، لكن.. ألا تتساءل؟ عن هذا الحوار، بين قلبك، وعقلك، وسائر جسدك؟ ألا يجب أن نخوضه كل يوم؟ أليس منكم رجلٌ رشيد؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ حلوة صح؟ تعطي لمسة درامية بعد كل تساؤل، تجعلك تشعر أنك على حق، بينما قد تكون مخطئًا تمامًا.
قبل شهرين، مررت بتجربة، رأيت فيها الكثير من الفساد والقبح، رأيت فيها قلوبًا ملوّثة، وعقولًا غائبة، والكثير من الخبث. شعرتُ طوال الوقت أنني أريد أن أتقيأ كل ما بداخلي، أن هذه القذارة اصبحت بداخلي أيضًا، و-بيني وبينكم-، في وقتٍ ما، تقيّأت، شعرت بالراحة صراحة، لكن لا شيء تغيّر، ليس هناك في هذا الكون من القدر المناسب من الماء، النار، التقيّؤ، الحجامة، ما يمكنه أن يطهّرني. لن تفعل الصلاة ذلك أيضًا. أحتاج قلبًا جديدًا، دمًا جديدًا، عقلًا جديدًا، جسدًا جديدًا، أحتاج أن أرمي كل شيء، أهدم كل شيء، أعود إلى الصفر، ثم أبني كل شيء.
كل سنة، أتأمّل النسخة الجديدة منّي، الإصدار الجديد، لكن يبدو لي، أن عليّ أن أكون شخصًا جديدًا، لا علاقة له بالنّسخ القديمة، هل أستطيع؟ لا أعرف.
تعليقات
إرسال تعليق