رؤى محترقة

 لم أعد لقراءة الأدب منذ أكتوبر الماضي، وأفهم الآن السبب. 

أثناء قراءتي لرؤى، حدث ما لم أتوقعه، وهو أنني ضحكت أكثر من مرة، ولكن ما فاجأني حقًا، هو ما حصل الليلة الماضية.. أنني بكيت! إن سبب ابتعادي عن القراءة، والكتابة على حد سواء، أنها تخرج الكثير من المشاعر بداخلي، بينما أنا أحبسها في قبو مظلم في آخر أعماقي أنسى وجوده أحيانًا، إن نهاية السنة وقت محيّر، حرج.. خطِر! يحاول فيه الجميع ملاحقة ما تبقى من عامهم ليشعروا أنه لن يضيع سدًى، في حالتي أنا.. لم يكن الأمر كذلك، فالعامل المشترك بين أكتوبر الماضي وأكتوبر هذا العام هو أنني في كليهما أخوض تحديات كبرى. وأبدأ تجربةً جديدة، أثبت فيها لنفسي أنني أقترب مما أريد، أعمل فيها بجد تارة وبهزلٍ تارة أخرى. 

عندما أقرأ، لكي لا أظلم الكتاب وصاحبه، أتأمل ذاتي دائمًا، حالتي الآن، لماذا قررت أن أقرأ هذا الكتاب؟ ولماذا أمتلك هذا الرأي نحوه؟ إن رؤى تجربة بالنسبة لي، وليست مجرد رواية. رؤى كانت فرصة لي لأسمح لنفسي أن أتساءل كما يفعل بطلها، أن أطلق مخيّلتي كحصانِ جامح بينما جلست مخيّلتي مكبّلة في القبو مع الآخرين، عندما حكى لي محمّد عن رؤى تحمّست، وللأمانة ظننتها أقلّ جدية مما رأيت لاحقًا.. لا ألوم محمّد، ألوم توقّعاتي. 

بطل رؤى محيّر، لكنّه حقيقي، أستطيع رؤيته، وأرى مثله الكثير، هو قارئ وكاتب عاديّ جدًا في نظري، لكنّه يرى نفسه عظيمًا وعبقريًا، ولأن السقف في واقعنا منخفض جدًا بالفعل، الشخصيات من حوله تعزز هذه الصورة بشكل أو بآخر، "الكاتب المجنون" وغيرها من الأنماط المبتذلة التي تلقى على من يعمل في الوظائف الإبداعية. إن الفصل الذي أبكاني لم يفارق أفكاري البارحة، أودّ التطرق إلى جوانب مختلفة في شخصية البطل، لكن هذا الفصل يأبى، سأحاول.. أو ربما لا.. هناك فصل آخر أعجبني، حين يتحدث مع رنا عن طلاقها، كانت لحظة أواجه فيها نفسي، عندما فكرت في كل التجارب التي مررت بها منذ السنة الماضي، هل خطئي الوحيد كان الاختيار؟ بالتأكيد لا. 

كنت أغلق الرواية كل خمس دقائق تقريبًا، للتفكير في التساؤلات التي أثارتها بداخلي، مبروك يا محمّد، لقد فعلتها. قد يكون محمّد قد قصد تساؤلات أخرى، أو لم يقصد شيئًا بحد ذاته، لكنه نجح على كل حال. وبقي نادر، وبقيت خيريّة.. أتساءل، كيف لم يفهم نادر أن ما كان يفعله يؤدي إلى نتائج خطيرة منذ البداية؟ كيف أن ردة فعل رنا عندما عرفت عن وظيفته كانت مبرّرة، كيف أن مساعدة وحش على النجاة بفعلته يجعلك وحشًا أيضًا؟ هل أنا قاسية على نادر؟ لا، هذا الواقع. وحوشٌ كثيرة.. ماذا يكلّف الهروب؟ أتساءل. 

الأمر مرعبٌ بالنسبة لي، كيف أن نادر يعلم أن رؤى هي حب حياته، ولم يحمله ذلك على شيء، كيف تخسر حبّ حياتك مقابل الاستمرار في الهروب؟ كيف من السهل أن تبذل كل شيء وتخسر كل شيء في سبيل وهم راحة بالك عند الهرب.. الاستسلام هو أكثر الأشياء رعبًا بالنسبة لي. سهولته.. كيف أنه متوقّع من كل رجل.. أن تقولي له يا خسارة، ويقول لك أنتِ خسرت عندما اخترتيني.. وكأن فعل شيء هو أمر مستحيل الحدوث، كأنه مكبّل أمام كل بداخله، بينما تحاربين كلّ يوم لكسر قيدٍ جديد.

وما رنا إلا رؤى أخرى.. 

نادر ليس نادرًا أبدًا، هو رقم آخر، من بين أرقام أخرى. رجل آخر اختار الهروب، واو.. خبر جديد؟ بصراحة في السنوات الأخيرة، والسنة هذه بالذات، خيبة الأمل لم تعد مؤلمة، أصبحت مملّة، "يا خسارة"، أصبحت خسارةً أخرى. لا شيء جديد. 

رؤى تجربة لأنها جعلتني أمرّ بكل تلك الأفكار والمشاعر التي أحملها أنا، إن كان هناك شيء تعلّمته من رؤى، ومن أحداث هذه السنة، أنني لا أستطيع الاستمرار في الهروب، والغرق في العمل، لأن في الحياة الواقعية، لا أستطيع حلّ كل شيء بعود ثقاب وجالون كيروسين، لا أملك هذه الرفاهية، هل كان نادر يعلم أنه يهرب؟ نعم، ويبدو أنه يعلم طوال الوقت، هل كنت أعلم أنني أهرب طوال الوقت؟ نعم. 

أذكر أني كتبت نصًا، أسميته، "لقد كنتُ يومًا ما رجلًا"، أنهيته بأني أصبحت رجلًا آخر، كم نسخةً مني يستلزم الشفاء؟ هل هناك نسخ مختلفة من نادر؟ أشعر أن نادر هو نفس ذلك الرجل، لم يتغيّر يومًا، حتى عندما رأى كل شيء. نادر يعشق الوهم، ويكره الواقع. نجتمع في بعضهما. كم كلّفني الهرب؟ كلّف أبي الهرب زوجة وخمسة أبناء وابنة، وظيفة، بيتًا، وصحةً، وعقلًا. 

تعليقات

مقالات فنية

من هو القيم الفني؟

ماذا ينبغي أن يقول الفن؟

لا بأس، ستأتي فرصة أخرى