فيم أخطأت باربي؟ وفيم أخطأنا؟

ليس مجرّد فيلم..

عندما ذهبت إلى فيلم باربي، ركزت على تجاهل كل ما كتب في مواقع التواصل الاجتماعي حول الفيلم، وذكّرت نفسي بأن هذا "مجرّد فيلم"، لبست الورديّ ووضعت مساحيق التجميل لأول مرة من فترة طويلة، سعدت بصحبة لطيفة وأحاديث ممتعة قبل وأثناء الفيلم، الكل في قاعة السينما كان متزيّنًا بالوردي شبابًا وفتيات من أعمار مختلفة! كان مشهدًا مبهجًا بالنسبة لي، كم مرة خلال السنة يتسنى لنا أن نرتدي ألوانًا زاهية بلا خوف؟

رغم محاولاتي الشديدة في التركيز على رسالتي "هذا مجرد فيلم"، إلا أنه كان أمرًا صعبًا جدًا، الفيلم محمّل بالكثير، وأنا محمّلة بالكثير. وهنا أذكر لكم الأسباب التي جعلتني أخرج حائرة حول شعوري تجاه الفيلم
تحذير: هذه التدوينة ستكون مبعثرة لكن لطيفة، كفيلم باربي.



المسألة ليست نسوية، المسألة تجارية. 

غضب الكثير من مشهد البداية لاعتقادهم بأنه يحمل رسالة ضد مفهوم الأمومة، واستبداله بـ(أي كان ما تمثله باربي في رأيهم)، بينما ما يقلقني في هذا المشهد هو أنه يروج لفكرة واحدة، وهي أن شركة ماتل هي الشركة الأولى التي وفرت دمى ثلاثية الأبعاد تجسد امرأة بالغة بدلًا من دمى الأطفال. وهي فكرة خاطئة طبعًا، لأن هناك العديد من الشركات التي سبقتها بذلك، لكن شركة ماتل بقيت تروج لهذه الفكرة منذ سنوات كمحاولة لإعادة كتابة التاريخ ونسب الفضل في ابتكار هذا النموذج من الدمى بالكامل لروث مؤسسة الشركة، لماذا؟ لأن شركة ماتل تمتلك الموارد والقوة الكافية لفعل ذلك. 

انتهزت شركة ماتل الفرصة لاستغلال كل جزء في النص لذكر أمثلة على النقد الذي وجه لها على مر السنين، وبدلًا من إيضاح أو اعتذار عن ما قاموا به، أو القيام بعمل لتصحيح أخطائهم، قرروا أن يذكروه في جملة ساخرة تقال لباربي قبل أن تنفجر بالبكاء، وفكرة يزرعونها في ذهن المشاهد ليشعر بالذنب: "لماذا حمّلنا هذه الدمية مسؤولية كل هذا؟ هي مجرّد دمية!" 

لا عجب في ميل ماتل لاستخدام النسوية لترويج منتجاتهم عبر تعيين مخرجة نسويّة لإخراج الفيلم كإكسسوار يضفي قيمةً ما لهذا الإعلان الكبير، لطالما استخدمت ماتل جميع القيم التي تستطيع أن تستغلها لبيع منتجاتها. جعلتنا ماتل نعتقد أن باربي لديها أكثر من 200 وظيفة في سيرتها الذاتية لأن "المرأة تستطيع فعل كل شيء"، بينما باربي تمتلك هذه الوظائف كلها لتبيع لنا ماتل 200 نسخة مختلفة من باربي نشتريها لأطفالنا.

لذلك أتسائل: من أتى أولًا؟ القيمة التي نؤمن بها ومن ثم نخلق منتجات جميلة تعبّر عنها لنحاول نشر القيمة حول العالم؟ أم المنتج الذي نودّ بيعه بشدّة، بنقوم بإلباسه كل القيم الممكنة حتى لو لم نؤمن بها فقط لننشر منتجاتنا حول العالم ونصنع المال؟ ماتل صرحت في أكثر من مرة بأن هذا الفيلم "ليس نسويًا" خوفًا من خسارة المال، لكنها لم تخف من إطعامنا بعض الأفكار والقيم النسوية بشكل سحطيّ جدًا في فيلمها حتى تصنع المال (إن لم ترى الفيلم بعد، بس بنبهك إن كلمة "النظام الأبوي" حتطلع من خشمك). 



كلمني، لا توريني

رغم أن كل صناع الأفلام يؤمنون بعبارة "لا تتكلم، وريني"، فيلم باربي يحب الكلام والسبب منطقي. أنا أتفق مع الرسالة التي حاولت "غلوريا" قولها بأكثر طريقة مبتذلة سمعتها، وهي: أن الخطاب التوعوي هو المضاد الحيوي الذي سينقذ النساء من غسيل الدماغ والضغط الذي يمارسه النظام الأبوي، وهو أمر معروف، لكن الحروب الكثيرة التي نخوضها كنساء حتى لا ننخرس، ننسى أهمية هذا الخطاب، ونقع في فخ "مافيش أمل"، وهي حفرة مليئة بالإحباط يستمتع النظام الأبوي ببقائنا فيها. لكنني تمنّيت أن يكون هذا الخطاب مكتوبًا بشكل أفضل، أو يقرأ بأداء أفضل. طالما أن فيلم باربي لم يعد فيلمًا للأطفال في كل الأحوال. 

نصف اعتذار

الشيء الوحيد الذي جعل ماتل تعترف بأخطائها في الفيلم، هو أنها ستستطيع أن تقنع جيلنا بأن باربي "ليست بذلك السوء"، وتأكدت أن تكسب الكثير خلال القيام بذلك. فيلم باربي ليس فيلمًا للأطفال في الحقيقة، أطفال هذا الجيل لا يهتمون باللعب بهذه الدمية، لكن الأطفال الكبار (نحن) نود ممارسة الحنين إلى الماضي والطفولة ورؤية الممثلين الذين كنا نشاهدهم منذ الطفولة (أمريكا فيريرا من مسلسل Ugly betty وريان غوسلنغ من ديزني).
لا بأس أن تعترف ماتل بأخطائها طالما أنها لن تعتذر عن شيء، لن تصلح شيئًا، وأن ما ستقوله سيعجب الجمهور ويجعلهم يدفعون التذاكر. 




إن كنت تتسائل: "ايش قاعدة تقولي يا خيرية؟ ايش سوت الشركة غلط قاعدين يبيعوا ألعاب"، فأنصحك عزيزي القارئ بالبحث عن تاريخ شركة ماتل، الذي لا أود سرده هنا لكي لا يتحول المقال إلى حرب بائسة ضد الرأسمالية، لكنني سأذكر لك مثالًا صغيرًا:
نرى شعورباربي بالانتهاك في مشهد تتعرض للتحرش، وقد تعاطفت معها بشدة كشخص مر بتجربة مماثلة، وسعدت بأن هذه المسألة ذكرت في الفيلم، لكن أصبت بخيبة أمل عندما عرفت أن في الواقع: صانعات باربي الحقيقيات العاملات في مصانع شركة ماتل تعرضوا فعلا للتحرش من قبل مدرائهم، واشتكوا إدارة ماتل الكبرى، وماتل طبعًا! ما سوت شيء. 

لكن نصف الاعتذار هذا غير مقبول، الضحك على أخطاءك لن يكون كافيًا أبدًا، هل ماتل تقوم بأفعال خيرية للتعويض عما قامت وما تزال تقوم به؟ والله.. ماتل تحاول، أو على الأقل تحب أن تظهر أنها تحاول، من خلال تخصيص أقل من 1% من أرباحها لجهات خيرية، وإنتاج نسخ محدودة من الدمى "الكويسة"، كالدمة الصديقة للبيئة التي لا يمكن إعادة تدويرها لأنها معادة التدوير، والدمى ذوات طبيعة الأجساد المختلفة: دمية نحيلة أقصر قليلًا من باربي، دمية نحيلة أطول قليلًا من باربي، دمية تشبه كيم كارداشيان. 

من المضحك أن فيلمًا يعد إعلانًا لمنتج، يتحدث كثيرًا بسوء عن الاستهلاكية، بينما كانت ميزانية التسويق للفيلم أكبر من ميزانية الفيلم ذاته، وقدرة صناع الفيلم على دحش أكبر عدد ممكن من الإعلانات للمنتجات داخل وخارج الفيلم: السيارات، الملابس، الحقائب الفاخرة، وغيرها. 




أين القصة؟

هل لاحظت عزيزي القارئ أني لم أتحدث عن الفيلم كـ"فيلم" بعد؟ لأني ببساطة: نسيت. 
الفيلم يقول الكثير، وهذا ما يجعله في نفس الوقت: لا يقول شيئًا، وهذا الأمر الذي جعلنا ننسى قصة بطلة الفيلم:"باربي"! دمية تقرّر أن تبحث عن هدفها في الحياة والأثر الحقيقيّ الذي تستطيع أن تتركه في العالم الحقيقي، بعد سنوات من العيش في الفراغ، تخدم فيه صورة مثالية تعتقد أنها ينبغي أن تكون عليها لتعيش حياة مثالية وسعيدة. أشارت ماتل إلى القمر بإصبع، ولكنها شتتنا بالكثير من الأصابع الأخرى التي كانت تشير إلى كل شيء عدا قصة باربي, ولذلك خرج الجميع بشخصيات ضعيفة البناء، بأهداف تبدو قوية لكن تطوّرها حتى الوصول للأهداف لم يكن قويًا بالشكل الكافي. 

الإنسان هو القضية الحقيقية 

ما لم يفهمه الكثير أن عالم باربي ليس عالمًا مثاليًا، هو فقط عالم موازي لعالم آخر ليس مثاليًا أيضًا: الواقع. أي عالم يفوز فيه طرف على آخر، بدون أحقية، هو ليس عالمًا سعيدًا. فقط لأن "كن" كان يمتلك وظيفة الشاطئ دون أن يتعلّم السباحة، لا يعني أن باربي الكاتبة قد قامت فعلًا بتأليف كتاب، أو أن باربي الدكتورة درست الطب. العالم المزيّف، ليس مثاليًا، لذلك.. ذهبت باربي لتبحث عن الحقيقة. 

وهي رحلة يصعب علينا كثيرًا القيام بها، كيف نترك عالمنا المثالي، الذي نعتقد فيه أننا بخير، سعداء، وأننا الأفضل، وأننا نترك أثرًا جميلًا، ونذهب إلى الواقع؟ حيث يصرخ فينا طفلنا الداخلي الغاضب، لنكتشف أننا لسنا مثاليون، وأننا آذينا من حولنا، وأن أثرنا كان سيئًا، وأننا لنقوم بإصلاح ما فعلنا، لا بد أن نواجه حقيقتنا، نتقبل قبح العالم، نتعرّض للأذى، نتعامل مع الألم، نهرب من المشتتات، ونقف صامدين أمام من يتلاعب بنا.. العالم الحقيقي يمتلك الجمال والقبح، لن نكون سعيدين حتى نتقبل كليهما.

هل تودّ أن تتفاقم مشكلاتك بينما تعيش في حالة إنكار وسط عالم خياليّ؟ أم تذهب في رحلة صعبة وقاسية تستطيع في حل مشكلاتك من جذورها؟ أجابت باربي عن هذا السؤال بالإجابة الصحيحة في نهاية الفيلم، عنداما سألتها صانعتها عما تريد: "أريد أن أصبح إنسانة".



في الختام، هل يستحق باربي الزخم؟

فيلم باربي هو إعلان ضخم التكلفة، لكنه إعلان ممتع، وهو أمر صعب تحقيقه، أن تبيع منتجًا دون أن تكون مباشرًا، أن تحكي قصة مؤثرة، تدافع عن شركة سيئة السمعة، تناقش قضايا تهم جمهورك دون أن تزعجهم، وتنتج فيلمًا سينمائيًا جميلًا يستمتع به الجمهور.. كان التحدي كبيرًا أمام مارغوت وغريتا، لكنني أرى أنهم قاموا بعمل لطيف يستحق أن نكتب عنه، يستحق المشاهدة لمرة واحدة، وكاد أن يستحق أن نراه كمجرد "فيلم"، لكنه لم يكن كذلك. 


_______________________________
خيرية، تقول الكثير. 
الخميس 24 أغسطس 2023
3:01 عصرُا

تعليقات

مقالات فنية

من هو القيم الفني؟

ماذا ينبغي أن يقول الفن؟

لا بأس، ستأتي فرصة أخرى